"الحكواتي" و "سدوم"
كنت في جلسة عائلية مابين الظهر والعصر ذات مرة أنعم بالتحاور مع الأهل وبعض الأقارب الذين حلوا ضيوفا علينا حين سألني ولدي بغتة - ولم نكن بصدد الحديث عن هذا الموضوع أصلا، إذ كنا نمزح ونضحك ونتباهى بحبنا لهذا الفريق الرياضي على حساب ذلك الفريق الذي نعتبره دون مستوى فريقنا والشق الآخر يناقضنا الرأي ويستبسل في الدفاع عن فريقه، وكانت طريقة التحاور ظريفة وطريفة تفرض على الجميع الضحك إلى حد القهقهة أحيانا وتنوع الحجج والبراهين المضحكة وغيرها وكنا من حين لآخر نستحضر بعض الذكريات التي تنال من "الفريق الخصم" وذكريات مبارياتنا ضده وما اتصفت به من نتائج كبرى وكارثية احيانا - بكل جدية حتى اندهش الجميع من هذا التحول في الحديث من مسار إلى آخر بسؤال بسيط في الظاهر وعميق وهام جدا في الأصل لما يتطلبه من معلومات ومعارف ومعطيات :
- لماذا سمي البحر الميت كذلك أبي؟
- (بعد الاستقامة في الجلسة ونزع خاصية المرح للبس خاصية الجدية والتأهب للجواب بدقة لتبلغ المعلومة للاذان وفق المطلوب والمنتظر) قبل ذلك بني كان حري بك أن تسألني عن موقعه ومساحته وخصائصه وغيرها من المعلومات التي تسمح لنا بتقديم الموقع الذي نزمع الخوض فيه وفي اغواره
- (زوجتي مقاطعة وهي تضحك ضحكة استهزاء) هات المفيد يا كريستوفر كولومبوس واوجز فنحن في مجلس عائلي لا قسم مدرسي (والكل يضحك بصوت عال)
- (مبتسما ومشيرا إليها بيدي) ما بالطبع لا يتغير أيتها المشاكسة. هو بحر ملحي مغلق يقع في الشق السوري الأفريقي في قارة آسيا يقع بين فلسطين والمملكة الأردنية الهاشمية ويفصل بينهما، ويعد من اخفض بقاع العالم.
- (زوجتي مقاطعة كالعادة) اوجز يا "حكواتي".
- (مبتسما ومغتاظا جدا في الآن نفسه من هذا التصرف المعتاد عند شريكة حياتي المتسرعة في كل شيء) وقد سمي بعدة مسميات كبحر الملح، الزفت، النتن، الموت،الشرقي، عربة، سدوم، زغر، لوط وغيرها. أما مناخه فهو جاف وقليل الامطار وكثير الحرارة ورطوبته قليلة وشسمه ساطعة طول السنة. كما يتميز البحر الميت بملوحته الشديدة جدا ونسبة تبخره العالية واحتوائه على نسبة عالية من بعض العناصر مثل الأملاح والكالسيوم والبوتاسيوم
- (زوجتي كالعادة ومتجهة بالحديث نحو السامعين بجدية) من فهم شيئا من درس الجغرافيا هذا؟ (والكل يقهقه) بسط المعلومة واوجز أيها الجهبذ (ضاحكة بصوت عال)
- (والعرق يتصبب) سمي كذلك لانه ميت ولا حياة فيه لأي كائن حي، كما سمي بهذه التسمية لأن الله خسف في هذا المكان قوم لوط الذين افسدوا في الأرض و...
- (أختي الكبرى وقد اعتراها الخجل إلى درجة التعرق) غيّر الموضوع أرجوك واتركنا من هذا الأمر (وهي تستعيذ من الشيطان والحضور يتساءلون عن سبب هذا التصرف)
- (بعد أن رمقتها بنظرة حادة وثاقبة) ما العيب فيما نحن فيه؟
- (بعد أن امتنعت عن الجواب في مرحلة أولى) إنك تتطرق إلى موضوع محرم وغير عائلي
- (مقاطعا وضاحكا ضحكة استهزاء) أولا اختاه فإننا بصدد الحديث عن مكان الوقائع المحرمة لا سرد تفاصيلها، ثانيا فإن ذكرنا بها فانها من المحاسن "ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"
- (مقاطعة بشدة) لا أرجوك تجاوز (والكل يضحك ويقهقه كلما تغيرت تقاسيم وجهها واشارات جسدها)
- (ضاحكا) إن ما اتاه قوم لوط لم يأت به قبلهم أي قوم لذلك خسف الله بهم الأرض نكالا بما كانوا يفعلون وحتى زوجة النبي لوط التي "قدرناها من الغابربن". لكن هذا الفعل بات" مباحا ومتاحا للجميع" في هذا العصر، بل انه اضحى حقا وقانونيا ومشروعا لمن يحبذه وبتبعه تحت غطاء "الحرية الشخصية" و " الحرية الجسدية" وغيرها من التسميات والشعارات التي تستبسل في الدفاع عنها الجمعيات الحقوقية والمنظمات ذات الصلة وغيرها.
- (ابني مجددا بلهفة وشوق) وهل توجد آثار وعلامات لما كنت تسرد من وقائع وتفاصيل اليوم ابتاه؟
- (بعد تفكير وتنظيم لعملية الشهيق والزفير وشرب بعض الماء) تمكن علماء الآثار من ايجاد اشياء يعتقد انها من بقايا "سدوم" المعروفة اسلاميا بقوم لوط في منطقة تل الحمام بالأردن (بعد تنقيب علماء آثار من امريكا لما يزيد عن عشرة سنوات) والتي توقفت فيها الحياة منذ ما يزبد عن ثلاثة الاف وخمس مائة سنة (وهو تاريخ الخسف) وقد تم العثور على مبان قديمة وادوات من مدينة كبيرة جدا في العصر البرونزي كانت دولة ضخمة سيطرت على كل جنوب غور الأردن. وقد شرح أحدهم أن ما تم العثور عليه هو مدينة بقسمين سفلي وعلوي وفيها ظهر جدار من الطوب الطيني بارتفاع عشر وعرض مايزيد عن خمسة امتار، كما ظهرت بوابات معبد ومثلها لابراج مع ساحة رئيسية، اضافة إلى موقع يبدو أنه كان مميزا لانه كان مدعما بحمايات خاصة وكلها منشآت تطلبت احجارا من الطوب بملايين....
ومازلت استعرض ما اعلمه في هذا الموضوع وانا انظر إلى السماء واستعين بيدي للإشارة والتدقيق والتفسير والتحليل حتى نظرت فجأة للحضور لأرى مدى تركيزهم وانتباههم، لأجد المكان صحراء قاحلة لا حياة فيها بتاتا وقد اقفر المجلس وخلا من كل روح بشرية عدا "الحكواتي"....
فرجعت بي الذاكرة إلى أيام خلت حين كنت اقود فيالق التلاميذ وادرسهم حتى ينهلوا و يرتووا من بحار العلم (ولا يرتووا لملوحتها، فيزدادون عطشا كلما شربوا نزرا من مياهها العذبة)، فكنت ابدأ المحاضرة باستمرار بمدارج ممتلئة يصعب التنفس فيها لانهي الدرس بتواجد مجموعة صغرى من المتابعين وهم يتثاءبون ويغمضون اعينهم ويفتحون ويتحادثون أحاديث جانبية من هنا وهناك... ،
فعلمت الآن أني فعلا كنت فاشلا ولا زلت في شد الإنتباه وتبليغ المعلومة مهما كانت قيمة و هامة وبليغة....
-----------------------------------------------------------------------------بقلم : ماهر اللطيف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق