كالمعتاد استقل طائرته الخاصة وتوجه بها للإستشفاء في دولة شقيقة، ولم يخطر بباله قط وهو نازل عبر السلم المتحرك أن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي تُفرد له فيها سجاجيد الإحتفاء بمقدمه المهيب.
قضى عدة أيام في جناح فخم من المستشفى الدولي، وفي صباح ما، لمس عبوسا وكدرا في عيني حارسه الخاص. وقبل أن يسأله عن سبب ذلك، عاجله الحارس الشخصي بالسماح له لفتح التلفاز على قناتهم الوحيدة. كاد الرئيس أن ينهار وقد رأى جحافل الجيش والمدنيين وقد اقتحموا قصره وبعثروا متاعه وكسروا صوره.
بعد وجوم وجمود، حرك أصابعه على الهاتف فأجابه من أقصى الكون صوت يعزيه في منصبه ويدعو له بالسلامة.
انهار الرئيس على أريكة جلدية وأشار لحارسه بالإنصراف لعله يستجمع بعض هذا التشظي الذي شتت ذهنه. من وراء ستار النافذة الشفاف، لمح تحركات أمنية تنذر بوشوك زيارة وفد رفيع لجناحه.
قال في نفسه لو ظل معلما في البادية الصحراوية لكان هنيء البال مرتاح النفس صافي الروح لا تشغله شاغلة عن نفسه ولا عن صحته. ولكنها لعنة الجيش الذي استغل نبوغه فيه وسلطته التي استمدها من المتآمرين الخارجيين فدفعوه للإنقلاب على رئيسه الذي كان الأمين عن سلامته. ولسخرية القدر، الآن صديق آخر يجدد الإنقلاب عليه. وأكيد سيأتي صديق آخر ويقلب الطاولة على الإنقلابي وهكذا ستمشي أمور قيادة البلاد إلى أجل غير معلوم.
زاره وفد من بلد الضيافة، وطمأنه على سلامته وأكدوا له أن الإنقلابيين سيعملون على توفير الحماية والرعاية لكل أفراد عائلته قبل أن يلتحقوا به هنا، أو في أي مكان سيختاره لقضاء ما تبقى من عمره.
عشرون سنة مرت، كيف سيمكنه طيها في لحظة خاطفة لم تتجاوز تنهيدة حسرة وتأفف. سفريات فخمة، مؤتمرات دولية، أعراس أسطورية، اعتقالات وإعدامات ميدانية، حفاوات مبالغ فيها، نفاقات بلا وضوء في الغالب، وكل هذا كان مجرد قصر من رمال عبثت به أولى هبات الواقع المزيف.
أعاد للتلفاز صوته عندما شاهد مفتي جمهوريته يقدم تصريحا يقول فيه: قائدنا الجديد هو قضاءنا، هو قدرنا... قال في نفسه: هذا التصريح نسخة مكرورة ومقتضبة عن تصريح المفتي قبل عقدين من الزمن عندما جاء به من التعليم ونصبه زعيما روحيا ببطاقة بيضاء...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق